وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
يقول تعالى ذكره : وكذب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقاً فلقتين واتبعوا أهواءهم يقول : وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما جاءهم به من ربهم .
وقوله وكل أمر مستقر يقول تعالى ذكره : وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره ومتناه نهايته فالخير مستقر بأهله في الجنة والشر مستقر بأهله في النار .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله وكل أمر مستقر أي بأهل الخير الخير وبأهل الشر الشر .
وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
وقوله : ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر يقول تعالى ذكره : ولقد جاء هؤلاء المشركين من قريش الذي كذبوا بآيات الله وابتعوا أهواءهم من الأخبار عن الأمم السالفة الذين كانوا من تكذيب رسل الله على مثل الذي هم عليه وأحل الله بهم من عقوباته ما قص في هذا القرآن ما فيه لهم مزدجر يعني : وما يردعهم يزجرهم عما هم عليه مقيمون من التكذيب بآيات الله وهو مفتعل من الزجر .
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحرث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله مزدجر قال : منتهى .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر : أي هذا لقرآن .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر قال : المزدجر : المنتهى .
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ
وقوله حكمة بالغة يعني بالحكمة البالغة : هذا القرآن ورفعت الحكمة رداً على ما التي في قوله ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر .
وتأويل الكلام : ولقد جاءهم من الأنباء النبأ الذي فيه مزدجر حكمة بالغة ولو رفعت الحكمة على الاستئناف كان جائزاً فيكون معنى الكلام حينئذ : ولقد جاءهم من الأنباء الذي فيه مزدجر ذلك حكمة بالغة أو هو حكمة بالغة فتكون الحكمة كالتفسير لها .
وقوله فما تغن النذر وفي فما تغن النذر وجهان : أحدهما أن تكون بمعنى الجحد فيكون إذا وجهت إلى ذلك معنى الكلام : فليست تغني عنهم النذر ولا ينتفعون بها لإعراضهم عنها وتكذيبهم بها والآخر : أن تكون بمعنى : أنى فيكون معنى الكلام إذا وجهت إلى ذلك : فأي شيء تغني عنهم النذر والنذر : جمع نذير كالجدد : جمع جديد والحصر : جمع حصير .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ
يعني تعالى ذكره بقوله فتول عنهم : فاعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين من قومك الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر فإنهم يوم يدعو داعي الله إلى موقف القيامة وذلك هو الشيء النكر
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
خشعاً أبصارهم يقول : ذليلة أبصارهم خاشعة لا ضرر بها يخرجون من الأجداث وهي جمع جدث وهي القبور وإنما وصف جل ثناؤه بالخشوع الأبصار دون سائر أجسامهم والمراد به جميع أجسامهم لأن أثر ذلة كل ذليل وعزة كل عزيز تتبين في ناظريه دون سائر جسده فلذلك خص الأبصار بوصفها بالخشوع .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله خشعاً أبصارهم قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله خشعا أبصارهم : أي ذليلة أبصارهم .
واختلفت القراء في قوله خشعا أبصارهم فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض المكيين والكوفيين خشعاً بضم الخاء وتشديد الشين بمعنى خاشع وقرأه عامة قراء الكوفة وبعض البصريين خشعا أبصارهم بالألف على التوحيد اعبتاراً بقراءة عبد الله وذلك أن ذلك في قراءة عبد الله خاشعة أبصارهم وألحقوه وهو لفظ الاسم في التوحيد إذ كان صفة بحكم فعل ويفعل في التوحيد إذا تقدم الأسماء كما قال الشاعر :
وشباب حسن أوجهم من أياد بن نزار بن معد
فوحد حسناً وهو صفة للأوجه وهي جمع وكما قال الآخر :
يرمي الفجاج بها الركبان معترضاً أعناق بزلها مرخى لها الجدل
فوحد معترضاً وهي من صفة الأعناق والجمع والتأنيث فيه جائزان على ما بينا .
وقوله كأنهم جراد منتشر يقول تعالى ذكره : يخرجون من قبورهم كأنهم في انتشارهم وسعيهم إلى موقف الحساب جراد منتشر .
مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
وقوله مهطعين إلى الداع يقول : مسرعين بنظرهم قبل داعيهم إلى ذلك الموقف وقد بينا معنى الإهطاع بشواهده المغنية عن الإعادة ونذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الرواية .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن مغيرة عن عثمان بن يسار عن تميم بن حذلم قوله مهطعين إلى الداع قال : هو التحميج .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سفيان عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى مهطعين إلى الداع قال : التحميج .
قال : ثنا مهران عن سفيان مهطعين إلى الداع قال: هكذا أبصارهم شاخصة إلى السماء .
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله مهطعين إلى الداع : أي عامدين إلى الداع .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثنا معاوية عن علي عن ابن عباس قوله مهطعين يقول : ناظرين .
وقوله يقول الكافرون هذا يوم عسر يقول تعالى ذكره : ويقول الكافرون بالله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر : هذا يوم عسر وإنما وصفوه بالعسر لشدة أهواله وبلباله .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ
هذا وعيد من الله تعالى ذكره وتهديد للمشركين من أهل مكة وسائر من أرسل إليه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وتقدم منه إليهم إن هم لم ينيبوا من تكذيبهم إياه أنه محل بهم ما أحل بالأمم الذين قص قصصهم في هذه السورة من الهلاك والعذاب ومنج نبيه محمداً والمؤمنين به كما نجى من قبله الرسل وأبتاعهم من نقمة التي أحلها باممهم فقال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كذبت يا محمد قبل هؤلاء الذين كذبوك من قومك الذين إذا رأوا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمر قوم نوح فكذبوا عبدنا نوحاً إذ أرسلناه إليهم كما كذبتك قريش إذ أتيتهم بالحق من عندنا وقالوا : هو مجنون وازدجر وهو افتعل من زجرت وكذا تفعل العرب بالحرف إذا كان أوله زاياً صيروا تاء الافتعال منه دالاً من ذلك قولهم : ازدجر من زجرت وازدلف من زلفت وازديد من زدت .
واختلف أهل التأويل في المعني الذي زجروه فقال بعضهم : كان زجرهم إياه أن قالوا : استطير جنوناً .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن مجاهد وقالوا مجنون وازدجر قال : استطير جنوناً .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن منصور عن مجاهد بمثله .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله وازدجر قال : استطير جنوناً .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية وقالوا مجنون وازدجر قال : استعر جنوناً .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : ثنا زيد بن الحباب قال : وأخبرني شعبة بن الحجاج عن الحكم عن مجاهد مثله .
وقال آخرون : بل كان زجرهم إياه وعيدهم له بالشتم والرجم بالقول القبيح .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله وقالوا مجنون وازدجر قال : اتهموه وزجروه وأوعدوه لئن لم يفعل ليكونن من المرجومين وقرأ لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ( الشعراء 116 ) .
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ
وقوله فدعا ربه أني مغلوب فانتصر يقول تعالى ذكره : فدعا نوح ربه إن قومي قد غلبوني تمرداً وعتواً ولا طاقة لي بهم فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك .
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ
يقول تعالى ذكره ففتحنا لما دعانا نوح مستغيثاً بنا على قومه أبواب السماء بماء منهمر وهو المندفق كما قال امرؤ القيس في صفة غيث :
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان بماء منهمر قال : ينصب انصباباً
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
وقوله وفجرنا الأرض عيوناً يقول جل ثناؤه : واسلنا الأرض عيون الماء .
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان في قوله وفجرنا الأرض عيوناً قال : فجرنا الأرض الماء وجاء من السماء فالتقى الماء على أمر قد قدر يقول ذكره : فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وقضاه .
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان فالتقى الماء على أمر قد قدر قال : ماء السماء وماء الأرض وإنما قيل : فالتقى الماء على أمر قد قدر والالتقاء لا يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعداً لأن الماء قد يكون جمعاً وواحداً وأريد به في هذا الموضع : مياه السماء ومياه الأرض فخرج بلفظ الواحد ومعناه الجمع وقيل : التقى الماء على أمر قد قدر لأن ذلك كان أمر قد قضاه الله في اللوح المحفوظ .
كما حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال : كانت الأقوات قبل الأجساد وكان القدر قبل البلاء وتلا فالتقى الماء على أمر قد قدر .